كود ذكر المصدر

الراديو

...

كود مشاركة المواضيع في الفيس وتويتر

اخر الاخبار

اترك رسالتك

تحديث

.

.

.

.

نظرة تاريخية حول التحكيم ومزاياه ـ للمستشار / محمد الصعيدي


نظرة تاريخية حول التحكيم ومزاياه

( مقدمة كتاب اصول التحكيم في التشريع المصري )

 للمستشار / محمد الصعيدي 

سفير التنمية القانونية بالليديك

رئيس نادي قضاة التحكيم الدولي 

محاضر القانون الجنائي والتحكيم الدولي بالجامعات والاكاديميات العربية 




فقد جرت سنّة الله في خلقه باختلافهم في آرائهم ، واعتقاداتهم ، ومللهم ، واختلاف ألوانهم وألسنتهم ولا يزالون مختلفين حتّى يرث الله أرضه ومن عليها ، قال تعالى : " ولو شاء ربّك لجعل النّاس أمّةً واحدةً ولا يزالون مختلفين ، إلاّ من رحم ربّك ، ولذلك خلقهم "  ، فمن أجل الاختلاف ثمّ الرحمة للسعداء ، والعذاب للأشقياء ، ليكون فريق في الجنّة ، وفريق في السّعير ، خلق الله الخلق ولا يزالون مختلفين أبدا ، واختلافهم آية من آيات الله : " ومن آياته خلق السّماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآيات للعالمين "  .

كما جرت سنّة الله في خلقه باتّفاقهم على حب ما جبلوا عليه من المتـاع والمـال ، قـال تعالى : " زيّن للناس حب الشّهوات من النّساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذّهب والفضّة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدّنيا والله عنده حسن المآب "  وجبل الإنسان على حب المزيد من كل مال ؛ ليتنافس النّاس فتعمر الأرض وتزدان ، ويسعد الإنسان في حياته الدّنيا ، لكن لما كان حب الإنسان للمال جمّاً ، لو ترك إليه لأسرف وطغى ، وتنكب الطّريق ، وجار ، وظلم وغدا عبداً للمال يشقى به .تنزلَت آيات الله وكتبه وبعث بها رسله ، ليعرّفوا الإنسان حدود حرّيته في حبّ المال والمتاع ، ثمّ تنزلَت آيات القرآن الكريم لتنظيم موارد المتاع الحلال ومصارفه ، والحرام ومساربه وتدرج التّشريع في أحكام حفظ المال والحقوق ، حتّى حدّ الحدود القاطعة لمن بالغ في التّجاوز والظّلم ، وشرع من الأحكام عامة ما ينظّم حياة النّاس في أسرهم ومجتمعهم ودولهم .
وبنى النّفوس من داخلها قبل العلاج في واقع الحياة وزخمّها ، ليكون وازع الدّين أوّل سياج حفظ الحقوق لأصحابها ،فقد تنتهي الخصومة بالعفو أو بالإعراض عن الجاهلين . وقد تنتهي الخصومة بالصّلح . إلاّ أنّ من الخصومات ما لا تنتهي إلاّ بإقامة البراهين والحجج أمام القضاء ، فكان القاضي نهاية مطاف انتصاف المظلومين من الظالمين ، وتقرير الحقوق وردّها إلى أصحابها .

يأخـذ من هذا ليعيد لهذا حقّه ، ردّاً إلى حكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم : " فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى الله والرّسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخـر ذلـك خيرٌ وأحسن تأويلا "  فالنّزاع لا ينقطع بين المسلمين المؤمنين أو غيرهم ، لكن المؤمنين يفصل القرآن بينهم والسّلطان مخاطب بإقامة شرع الله وسياسة النّاس به في دينهم ودنياهم .

والقضاء سبيله في فصل الخصومات وإذا كان وازع الدّين في قلوب المؤمنين يحمل عن القضاء الكثير من وقائع الخصومات ، ممّا ينصف المؤمنون فيه بعضهم بعضا رغبةً ورهبةً استغفاراً وتغافراً وتوبةً . إلاّ أنّ هذا الوازع يقوى أو يضعف ، وقد يتغافر المؤمنون في صغائر الأمور ويحتاجون في كبارها إلى حكم القضاء لا ريب .
والطّامة حال النّاس مع ضعف وازع الدّين ، وتكالبهم على الدّنيا يتنافسوها ولو على حساب دينهم وحيثما ضعف الدّين في النّفوس زاد الظّلم ونما ، وكثر الظلم والظّلمة ، وتعالت الأصوات وثارت النّفوس وهاج النّاس وماجوا ، يأكل القويّ حقّ الضّعيف ، وإزاء ذلك يحتاج الحكّام إلى كثرة الأعوان من شرطة تضبّط وقضاة تحكم، رفعا للنّزاع ، وردّاً للحقوق إلى أصحابها . ولا ريب أنّ القضاء مرتقى صعب مسلكه لما يحتاج من ضمانات وإثباتات وحجج وبراهين ، وإجراءات وتكاليف ويزيد صعوبة عجز المظلوم أو فقره ومدافعة الظّالم عن نفسه ، بل مدافعة من يعين الظّالم على ظلمه ممّن يكون ألحن في حجّته ، يَخْبُر المداخل والمخارج التّي قد تفوِّت الحقوق ، وتحمي الظّالم ، وغايته كسب وفير يبرر الوسيلة ولو كانت ظالمة .
ولا تزال أبواب القضاء في بلاد الدّنيا كلّها أكثر الأبواب ازدحاماً ، وطول انتظار ، حتّى أصبح كثير من أصحاب الحقوق يتردّد في طلب حقّه وانتزاعه عن طريق أبواب القضاء ، حذراً من طول انتظار ، وتضييع الوقت ، أو خوفاً على سمعتهم وفضح أسرارهم وخصوصيّاتهم في جلسات القضاء العلنيّة ، ولربّما لو سلك الطّريق مع هذا ودفع من المال ما دفع لم يصل إلى حقّه لنقص في مستنداته ، أو ضعف في مطالبته أمام خصم ألحن منه بحجّته.

وأمام هذا الواقع عادت الدّول إلي مبدأ التّحكيم ، وهو تحاكم الخصمين بالتّراضي إلى غير القاضي ، وقد كانت الدّول تظنّ أنّ التّحكيم يخدش السيادة ، ولكن تبيّن لها أنّه نوع من القضاء ، بل يمكن أن يخضع له ، ويكون سنداً قانونيّاً له .

وقد كان التحكيم سائدا بين العرب ’يتولاه الحماء منهم ’وكانت القبائل تفتخر بحكمائها ."واشتهر بين العرب قبل الإسلام عدد من المحكمين أو الحكام عرفوا بالعقل والحلم والحكمة ’وباختلاف الناس إليهم للحكم فيما يشتجرون فيه منهم الحاجب بن زرارة ’والأقرع بن حابس ’وقس بن ساعدة ’وأكثم بن صيفى’وعبد المطلب بن هاشم " واشتهر بعض النساء بذلك أيضا منهن صحْربنت لقمان وهند بنت الخس’وجمعة بنت حابس’وبنت عامربن الظرب "

وقد أقرّ الإسلام التّحكيم ، بل حبذه وفضّله دون رفع التّخاصم إلى القضاء ، فما تمّ بالتّراضي خير ممّا يتم بعد الشّحناء والخصومة ، فالتّراضي بين الخصمين تقارب وتسامح وإيذان بالرّضى بالحق أو بعضه مع صفاء النّفوس وراحتها .

وقد عرف النّاس التّحكيم منذ القدم ، وما لجأ النّاس للقضاء حتّى قامت الدّول وشرعت النّظم وتعقّدت المسائل والمشاكل . كما عرفته العرب في جاهليّتها ، بل كان ملجأهم في حسم المنازعات بين القبائل ، وقد حقن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دماء قومه في جاهليّتهم بالتّحكيم لمّا أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود واختصموا فيه حتّى كادوا يتقاتلون قالوا : يحكم بيننا أوّل رجل يخرج من هذه السِّكة فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أول من خرج ، فقضى أن يجعلوه في مِرْطٍ – كساء من صوف أو خز يؤتزر به - ، ثمّ ترفع جميع القبائل من أطراف المرط .

وقد نظّم الإسلام التّحكيم ، واعتبره نظاماً لفصل الخصومات هو دون القضاء وفوق الصّلح والفتوى ، فضبط شروط المحكَّم ، وما يصح محلاّ للتّحكيم ، وما لا يصحّ الحكم فيه ، وأعطى لحكم المحكّم صفة الإلزام كالقضاء ، وسلبه التَنفيذ كالفتوى .
وقد عنى الفقهاء بتنظيم التَحكيم ، وإقامته على أصول الشّرع ، ومبناه ، فأحكامه مبناها تحقيق المصالح في رد الحقوق لأصحابها بطريقة التّراضي ، وحفظ الأسرار ، وسرعة الوصول للحقوق ودفع المفاسد من كثرت الخصومات القضائيّة ، ومشقّة التّرافع للقضاء ، ولذا قال ابن العربي " الحكم بين النّاس إنَما هو حقّهم لا حقّ الحاكم ،بيد أن الاسترسال على التّحكيم خرق لقاعدة الولاية ، وقود إلى تهارج النّاس تهارج الحمر ، فلا بدّ من نصب فاصل ، فأمر الشرع بنصب الوالي ليحسم قاعدة الهرج وإذن في التّحكيم تخفيفاً عنه وعنهم في مشقة التّرافع ، لتتمّ المصلحتان وتحصيل الفائدتان "  . فمبنى التّحكيم تحقيق المصالح ، ودرء المفاسد ، وسد الذّرائع ، لكن لما كان على خلاف الأصل في أنّ الولايات تكون للحكّام احتاج إلى قيود وضوابط ، وفَّى الفقهاء ترتيبها وضبطها .

وقد أثبت التَحكيم جدواه وأثره حتّى أصبح واقعا محترماً لا تخلوا دولة من تنظيمه واعتماده بل أنشأت له المحاكم والهيئات والمراكز المحليّة والإقليمية والدّولية . وأصبح شريان التّحكيم بين خصومات ومنازعات الدّول والأفراد .
وقد اهتمّت به الدّول العربيّة والإسلاميّة مؤخّراً .

ـ فالتحكيم له أهمية خاصة حيث انه هو نظام قضائي خاص ـ يهمين عليه مبدأ سلطان الإرادة فهو طريق استثنائي من القضاء الأصلي في الدولة يمتاز بالسرية في جلساته وأحكامه مما يحافظ على سرية المتنازعين سواء كانوا شركات أو أفراد أمام عملائهم ومنافسيهم ، كما يمتاز أيضا بسرعة الفصل في الأحكام  لأنها تكون محدده المدة ، كما يمتاز أيضا بان أحكامه نهائية لا يجوز الطعن عليها إلا بالبطلان بعكس أحكام القضاء ، ومميزات كثيرة تجعل من يعرف هذا المجال يخوض فيه بكل طاقته لكي يتعرف عليه أكثر وأكثر ــ فالتحكيم أصبح هو عماد الاستثمارات في أي دولة ، فهو يجذب المستثمرين للاستثمار في الدول التي تعمل به وتقوم عليه ويوجد بها محكمين ذوي كفاءة ومهارة عاليه .

فالتحكيم يحتل مكانة هامة في تسوية المنازعات بين المتعاملين في مجال التجارة الدولية لما يحققه من عدالة ناجزه خارج إطار النظام القضائي للدولة، كذلك تؤدي النظم الودية لتسوية المنازعات كالمفاوضات ،التوفيق، والوساطة دوراَ هاماَ في إنهاء المنازعات قبل اللجوء إلى التحكيم. وحتى تحقق الأهداف المنشودة من التحكيم فانه يتعين صياغة اتفاق التحكيم بدقة وإتباع خطوات إجرائية معينة منذ صياغة العقد والعلاقة القانونية أو نشأة النزاع وحتى عقد جلسة إجراءات التحكيم الأولي، كذلك يجب أن يتمتع المحكم بمهارات معينة لإدارة سير خصومة التحكيم وحتى صدور الحكم التحكيمي، فضلاَ عن أهمية تدريبه على فن صياغة الأحكام التحكيم

و تأتى أهمية هذا المفهوم في ضوء ما يشهده العالم حالياً من تزايد اللجوء إلى التحكيم سواء كان تحكيما مؤسسيا وخاصا كوسيلة مفضلة وفعالة لحسم المنازعات التجارية ومنازعات الاستثمار، او كتحكيم حر ، لما يتمتع به من مزايا ولما يحققه من سرعة وفاعلية في حسم المنازعات, وحفاظاً على السرية, وتحقيقاً للعدالة وصيانة للحقوق.


 ** مزايــــا التحكيم
ـ ومن هنا وجب علينا ان نسرد مزايا التحكيم وهي :ـ

أولاً : التحكيم وسيلة رضائية لتسوية المنازعات تعبر عن الرقي والتقدم بين الأطراف ولاسيما في عقود التجارة الدولية .

ثانياً : يتمتع الأطراف في نظام التحكيم بسلطات واسعة في تنظيم خصومة التحكيم وكيفية سيرها وحتي صدور الحكم النهائي وكيفية تنفيذه حيث يتمتع الأطرف بالحرية في تجديد شكل محكمة التحكيم وهل تتكون من فرد أو ثلاثة أو خمسة ويتمتع الأطراف بالحرية في اختيار شخصية المحكم والمواصفات التي ينبغي ان تتوافر لديه وفي تحديد مواعيد الجلسات وأماكن انعقادها والمدة التي يتعين أن يصدر فيها الحكم النهائي الحاسم للنزاع ولا شك أن هذه السلطات لا وجود لها في الخصومة القضائية والتي تتميز بتنظيم إجباري لا يملك الأطراف أي حرية في الاتفاق علي ما يخالفه .

ثالثاً : كما يتمتع الأطراف في خصومة التحكيم بحرية واسعة في تحديد القواعد القانونية التي تطبق علي إجراءات الخصومة وعلي موضوع النزاع

رابعا : ويتميز التحكيم بطابع السرية حيث يعترف القانون بشرعية إجراء التحكيم في إطاراً من الكتمان والسرية بعيداً عن العلانية التي يتميز بها جلسات المحاكم القضائية ولا يسمح القانون بنشر حكم التحكيم إلا بموافقة أطرافه .
خامسا: ويعد نظام التحكيم الوسيلة المناسبة والأكثر ملائمة لمنازعات التجارة الدولية إذ يتحرر الأفراد من سلطان القانون الوطني والقيود الآمرة المفروضة ويكون لهم الحرية في اختيار القواعد القانونية الواجبة التطبيق

سادسا  : ويتميز نظام التحكيم بأنه يوفي عنصر التخصص والخبرة في تسوية المنازعات حيث يترك للأفراد حرية اختيار شخصية المحكم من أهل الخبرة والتخصص .

سابعاً : ويتميز حكم التحكيم في معظم دول العالم بأنه حكم نهائي وملزم وقابل للتنفيذ الجبري بعد استيفاء الشروط الإجرائية التي يتطلبها القانون ولا يعرف نظام التحكيم علي درجتين في مصر وفي معظم دول العالم حيث لا تستأنف أحكام التحكيم إذ أنها تكون نهائية منذ صدورها بعكس ما يحدث أمام القضاء حيث يكون التقاضي علي درجتين والأحكام التي تصدر من محاكم الدرجة الأولي تستأنف أمام محاكم الدرجة الثانية وهو الأمر الذي يؤدي إلي ضياع الكثير من الوقت والجهد والنفقات في متابعة سير الخصومة القضائية .

ثامنا  : ويعرف نظام التحكيم أبعاد قانونية تلائم احتياجات التجارة الدولية لا وجود لها أمام المحاكم القضائية حيث يمكن لطرف خصومة التحكيم الاتفاق علي تفويض هيئة التحكيم في أن تفصل في النزاع وفقاً لقواعد العدالة والإنصاف وتستبعد أحكام القانون الوضعي وهو ما يعرف بنظام التحكيم بالصلح وهذه السلطات الواسعة لا يتمتع بها القاضي الوطني .