مشروعية التحكيم في الأحوال الجنائية
بقلم المستشـــارة / أمـــــيرة فكري
محكم دولي فئة ب
عضو نادي قضاة التحكيم الدولي
مستشارة علاقات دبلوماسية ودولية
منذ الأزل كان الخطأ
وكان الصواب ومنهما نشأ الخلاف والاختلاف بين البشر كل يتبنى وجهة نظره يدفع عنها
ويدافع ليثبت أنها الصواب ويأتي بحجج وبراهين يدعم بها حجته ليقنع بها الآخرين
بصدق ما يذهب إليه ويضيع الحق بين قول هذا وادعاء ذاك فنجد أنفسنا بحاجة لمن يقر
القول الفاصل من الحكماء غير القضاة ليروا ببعد نظرهم الثاقب مواقع الخطأ والصواب
في أية مشكلة أو قضية تعرض عليهم وهذا ما يسمى بالتحكيم .
وقد عرف التحكيم
كمؤسسة حقوقية منذ القدم وعرفه العرب في الجاهلية ثم اعتمده الإسلام عندما نشر
رسالته السمحة بين العرب وأقرت شريعته مبدأ التحكيم في العديد من النصوص التشريعية
وفي العديد من الأمور وتم تقنين هذه المبادئ في التشريعات الوضعية (الأحوال
الشخصية – المعاملات المدنية الأخرى ) مرتكزين في ذلك إلى الآية الكريمة:
"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا
مما قضيت ويسلموا تسليما " صـدق اللــه العظيـم .
وعرف أيضا في القضايا
الشرعية وذلك في التحكيم في نزاع بين زوجين يقول الله عز وجل في كتابه الكريم:
"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها" صدق الله
العظيـم.
والقانون لم يلزم
الخصوم على مراجعة المحاكم من أجل حل النزاعات القائمة بينهم بل أجاز لهم تفويض
أشخاص عاديين لا يتمتعون بصفة رسمية هؤلاء الأشخاص يسمون بالمحكمين اختصارا في
النفقة والوقت ورغبة عن شطط الخصومة القضائية وخشية الريبة من التصرفات الناجمة عن
المحكمين فقد قيدها القانون بضرورة المراجعة والتدقيق من قبل المحاكم المختصة أصلا
في نظر مثل تلك التصرفات ومراقبة عملهم من حيث تقيدهم بشروط التحكيم واغراضه
وقيامهم باعمالهم على الوجه الذي اتفق عليه اطراف التحكيم وحدده القانون
فالتحكيم بصفة عامه
هو اتفاق ارادتين أو أكثر على العزوف عن القضاء الطبيعى و اللجوء الى
المحكم..ويقصد به بصفه خاصة اتفاق شخصين أو اكثر على حل المنازعات التى ثارت أو سوف
تثور أثر علاقة قانونية تعاقدية او غير تعاقدية بالتحكيم عن طريق اخر او أخرين
مختارين من قبلهما يقضى بحكم ملزم لفض المنازعة بالقانون الواجب تطبيقه و المكان
واللغة و الزمان المختار.وقد انشأ نظام التحكيم فى المسائل التجارية و المدنية و
سنت له التشريعات العربيه القوانين المستقلة و ذلك لماله من أثر ايجابى على تشجيع
التجارة الداخلية و الدوليه و الأستثمار بما يكون له مردود إيجابى على أقتصاد
الدوله.
وقد اثيرت العديد من
التساؤلات فى الفقه حول مدى جواز تطبيق أليه التحكيم لحسم المنازعات الجنائي ولذلك
يجب استعرض التطور التاريخي للتحكيم اولا..
عرف التحكيم فى
المسائل الجنائيه و غيرها قبل ظهور القضاء ، لان هذا الاخير يستمد سلطاته من
الدولة ، لذا كان من
المنطقى ظهور التحكيم فى النظام القبلى او العشائري فقد كانت الجريمة رد فعل
اجتماعى ازاء جريمة اخري سبقتها ، حيث كان جلب الحق المسلوب او التعويض عنه يتم
بالنفس التى وقع عليها الاعتداء..و عندما ظهر الاسلام اسند امر انزال العقوبة الى
رب الاسرة ثم رب القبيله ، و كانت القبائل حريصة على تطبيق العداله و على نزاهة
الشخص المحكم الذى يحكم فى كافة المنازعات و فى احقاق الحق ثم ظهرت القسامة من قبل
ذلك "اليمين الحاسمة" فى الجاهلية قبل الاسلام و قد ابتدعها الوليد بن
المغيرة و هو (حلف خمسون رجلا من اهل المشتبه به فأذا رفضوه حلف المشتبه به فاذا
نكل قتل او اخذت منه الديه)...و قد اعتمد العرب فى تحكيمهم على اتباع العرف و سنن
من قبلهم و الاحتكام لذوى الرأى و الخبرة و الفطنة : و كان الحكم لازم التنفيذ.
كذلك عرف العرب بعد الإسلام
التحكيم في الدماء ، و قد شيد الإسلام نظام قضاء كامل حمل الكثير من مظاهر التحكيم
السابق لظهوره ، و مازال حتى تاريخنا تعقد الجلسات التحكيمية في القبائل العربية
دون اللجوء للقضاء لحسم المنازعات كافة و منها المنازعات الجنائية ، إلا أن الأمر
المطروح هنا هو مدى الزاميه و تنفيذ حكم التحكيم الصادر قانونا.
ولكن هناك بعض الأشياء
التي لا تجيز استخدامه في الحالات الجنائية:-
أولها.. أن المسائل
الجنائية تتعلق بالنظام العام
ثانيا.. أن القواعد القانونية
الجنائية في جانبها الموضوعى و الاجرائى قواعد آمره لا يجوز الاتفاق على مخالفتها
و ذلك لارتباطها بالحد الأدنى لضمان السلامة الاجتماعية المحمية من قبل الدولة سن
تلك القواعد القانونية و فرض عقوبات على مخالفتها.
ثالثا.. إن عدم تطبيق
الجزاء المشروع لمخالفة القاعدة القانونية الجنائية يهدر احد أهم أغراضها التي
تتحقق بتطبيقها و هو الردع العام و الردع الخاص ، فمن المعلوم أن تلك الأهداف هى
التى تحافظ على العدالة الجنائية التي تمحى الضرر الواقع. .
رابعا .. ان التحكيم
عمل ارادى يتعلق بمعاملات خاصة بين أطراف المعاملة يكون دوره حماية تلك المعاملات
بتطبيق القوانين المنظمة لها إذا ما لجأ أحد الأطراف للقضاء للمناداة باسترداد الحق
أو ثبوته أو التعويض عن ضرر لحقه اثر تلك المعاملات و من ثم يتضح لنا أن المعاملات
اراديه و اللجوء إلى التحكيم ارادى من الطرفين ، على خلاف القواعد الجنائية ، فإذا
ما ارتأى أطراف المعاملات المدنية و التجارية فض ما بينهما من منازعات نشأت او
ستنشأ بطريق ودي سواء بالتوفيق او الوساطة أو اللجوء إلى التحكيم لإصدار حكم ملزم
لكليهما فقد اتجهت إرادتهما إلى ذلك و ارتضيا الحكم مسبقا بلجوئهما الى ذلك الطريق
كبديلا عن القضاء ، على سند الحصول على مميزات التحكيم بإبقاء العلاقة الودية
قائمة و سرعه الفصل فى المنازعة و الفصل بها من قضاه متخصصون في المسألة محل المنازعة
دون الحاجة إلى اللجوء إلى الخبرة. و ذلك على خلاف القاعدة القانونية الجنائية .
وهو ما استقرت عليه
قوانين الإجراءات الجنائية و العقوبة في شأن الصلح بانه "لا يجوز الصلح في
المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية او بالنظام العام كالجرائم التي فيها شبهة
جنائية".
واذا نصت بعض
القوانين الإجرائية الجنائية و العقابية على جواز الصلح بها ، فهنا قدر المشرع ان
حق الدولة و المجتمع و المجنى عليه مضمون بيد ان المجنى عليه اذا رأى الصلح فيجوز
له ذلك ، حيث قدر الشرع ان مصلحه المجنى عليه قد تكون متحققة فى الصلح بصورة أفضل
من تحققها في عقاب الجاني من حيث الروابط الاجتماعية درء الضرر بصورة فعاله و
سريعة فضلا عن عدم تأثر المجتمع و العدالة العامة بذلك الصلح و الذي لا يعدو أن
يكون محلا لجريمة أشبه بالشخصية مع المجني عليه كجرائم الشيكات وإيصالات الأمانة
مثلا ، و بالمعنى العام أن تتحقق الايجابيات من الصلح اكبر من تحققها بالردع العام
و الخاص عند مخالفه قاعدة قانونية جنائية.