أوامر الرؤساء وحدود الطاعة
المستشار الدكتور
ناجي سابق
عضو نادي قضاة التحكيم الدولي
خبير في القانون الدولي الجنائي
لقد اعتبرت اتفاقيات جنيف لعام 1949 الرئيس مسؤولاً بوصفه
فاعلاً أصلياً إذا صدر أمر بارتكاب إحدى الجرائم الجسيمة، خلافاً لما تقضي به القواعد
العامة التي تعتبر الرئيس شريكاً في الجريمة التي يرتكبها المرؤوس([1]).
والمفروض في الرئيس أن يكون الأكثر خبرة ودراية بالعمل وحاجاته، والأقدر على مواجهة
الصعاب وحلها.إنه المسؤول الأول والأخير عن سير الأعمال وتحقيق الأهداف،خاصة إذا كانت
عسكرية أو أمنية. والرئيس يمارس في مجال اختصاصاته سلطات واسعة على مرؤوسيه وعلى أعمالهم،
فلا تقتصر على إصدار الأوامر والتعليمات وإنما تشمل تعديلها ومراقبة عناصرها والإشراف
عليهم والحلول مكانهم إذا اقتضى الأمر.
وهنا لابد لنا من التمييز بين القادة والرؤساء لتحديد المسؤوليات
وبيان السلطات لكل منهما، خاصة أن السلطة والمسؤولية توأمان، كما يقول الفقيه الفرنسي
Vedel([2]).
· فالقائد هو شخص طبيعي ذو شخصية قوية ومؤثرة في الجمهور يستمد
سلطته الفعلية من قدرته على التأثير والإقناع في سلوك الآخرين وصولاً إلى هدف معين،
وهو السيطرة الكلية على عقول الجمهور، تمهيداً لتنفيذ ما يريده منهم والحصول على طاعتهم
المطلقة. فالقيادة هي فن الإقناع والاقتناع، وهي مزيج من القوة والشخصية. وهذا ما يتسم
به القائد المدني. أما القائد العسكري فهو الرئيس الأعلى للقوات المسلحة أو القائد
في الميدان. وعادة ما يكون من أصحاب الرتب العليا (عماد- لواء-عميد- عقيد). ويسمى الضابط
القائد([3]).
· أما الرئيس فهو يستمد سلطته من مباشرته لوظيفته، ويفرض نفسه
على الجماعة التي تتبعه، فيكون النظام هو مصدر السلطة وأساسها، وعلى المرؤوسين الأدنى
رتبة أن ينفذوا أوامره ويتقيدوا بتعليماته. فالرئيس إذاً من النخبة في جميع مستوياتها
العليا والوسطى السياسية والفكرية والثقافية والعسكرية أو الأمنية، أي أصحاب اتخاذ
القرارات في جهاز الدولة.
· أما المرؤوس فهو الموظف الأدنى مرتبة من رؤسائه والذي ينفذ
أوامر الرؤساء والقادة بانتظام ضمن أصول واجب الطاعة وفي حدود القانون.
ومن الجدير بالذكر أن درجة امتثال المرؤوس لأمر الرئيس أو
القائد تختلف من وظيفة لأخرى، فهناك وظائف لا تترك للمرؤوس من السلطة التقديرية إلا
القليل أو عدمه، فيكون آلة للتنفيذ خاصة في الوظائف العسكرية، وإلا اعتبر عدم التنفيذ
عصياناً ورفضاً لأوامر الرؤساء، وهذا ما ينتج منه قيام المسؤولية التأديبية إخلالاً
بالانضباط العام([4]).
وأكدت (المادة 28) من النظام الأساسي مسؤولية القادة والرؤساء
الآخرين، فجاء نصها كما يلي:
بالإضافة إلى ما هو منصوص عليه في هذا النظام الأساسي من
أسباب أخرى للمسؤولية الجنائية عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة:
1- يكون القائد العسكري القائم فعلاً بأعمال القيادة العسكرية
مسؤولاً مسؤولية جنائية عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة، والمرتكبة من جانب
قوات تخضع لإمرته وسيطرته الفعليتين، أو تخضع لسلطته وسيطرته الفعليتين، حسب الحالة،
نتيجة لعدم ممارسة القائد العسكري أو الشخص سيطرته على هذه القوات ممارسة سليمة:
أ-
إذا كان ذلك القائد
العسكري أو الشخص قد علم، أو يفترض أن يكون قد علم، بسبب الظروف السائدة في ذلك الحين
بأن القوات ترتكب أو تكون على وشك ارتكاب هذه الجرائم.
ب- إذا لم يتخذ ذلك القائد العسكري
أو الشخص جميع التدابير اللازمة والمعقولة في حدود سلطته لمنع أو قمع ارتكاب هذه الجرائم
أو لعرض المسألة على السلطات المختصة للتحقيق والمقاضاة.
2- فيما يتصل بعلاقة الرئيس والمرؤوس غير الوارد وصفها في الفقرة
(1)، يسأل الرئيس جنائياً عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة والمرتكبة من جانب
مرؤوسين يخضعون لسلطته وسيطرته الفعليتين، نتيجة لعدم ممارسة سيطرته على هؤلاء المرؤوسين
ممارسة سليمة:
أ-
إذا كان الرئيس قد علم أو تجاهل عن وعي أية معلومات تبين بوضوح أن مرؤوسيه يرتكبون
أو على وشك أن يرتبكوا هذه الجرائم.
ب- إذا تعلقت
الجرائم بأنشطة تتدرج في إطار المسؤولية والسيطرة الفعليتين للرئيس.
ج- إذا لم يتخذ الرئيس جميع التدابير اللازمة
والمعقولة في حدود سلطته لمنع أو قمع ارتكاب هذه الجرائم أو لعرض المسألة على السلطات
المختصة للتحقيق والمقاضاة.
ويعد نص هذه المادة في نظر البعض النص الوحيد في النظام الأساسي
الذي يذكر المسؤولية الجنائية عن الامتناع كعنصر
في الركن المادي، إذ أقرت هذه المادة مسؤولية القائد والرئيس الأعلى عن أفعال
مرؤوسيهما، في ظل بعض الظروف، حتى لو أنهما لم يأمرا مباشرة بارتكاب الجرائم، واستناداً
لحقيقة أن من له سلطة في أن يمنع الجريمة ولا يقوم بذلك يعتبر، إلى حد ما، مسؤولاً
عن ارتكابها، خاصة أن تغاضيه عن هذه الجرائم يرسل إشارة إلى مرؤوسيه بالاستمرار في
جرائمهم دون الخوف من العقاب([5]).
وقد طُبق هذا النوع من المسؤولية للمرة الأولى في سياق جرائم
الحرب. ومن أبرز الأمثلة على ذلك قضية Yamashita (القائد الياباني) في أعقاب الحرب
العالمية الثانية، حيث حكم عليه بالإعدام لفشله في التحكم بقواته التي ارتكبت مجازر
في عدد من الأقاليم التي كانت اليابان قد احتلتها آنذاك([6]).
وتعد (المادة 28) تطوراً ملحوظاً في هذا السياق، فرغم الاعتراض
القوي، قسمت المادة استناداً لاقتراح أمريكي إلى قسمين يتضمن الأول: مسؤولية القائد الأعلى العسكري، بينما يتضمن الآخر مسؤولية
الرئيس الأعلى المدني، مع الاختلاف في المعيار المطبق على كل منهما، حيث سيسأل القائد
العسكري إذا علم أو كان عليه أن يعلم بالجرائم المرتكبة من مرؤوسيه، بينما سيسأل الرؤساء
الأعلى، المدنيون استناداً للفقرة (2) من (المادة 28) وفق معايير أدنى من تلك المطبقة
على القادة العسكريين([7])،
حيث لا يكونون عرضة للمساءلة الجنائية أمام المحكمة الجنائية الدولية، ما لم يكونوا قد علموا بارتكاب الجرائم أو تعاموا عمداً عن ارتكابها.
ومن الناحية العملية
تثير (المادة 28)، سواء فيما يتعلق بالقائد
العسكري الأعلى، أو الرئيس المدني الأعلى، صعوبات تتعلق (بالركن المعنوي) وبالعلاقة
مع (المادة 30) من النظام الأساسي التي تشترط (توافر القصد الجنائي المتمثل بالعلم
والإرادة)، بينما تستند مسؤولية القائد والرئيس الأعلى على مجرد (الإهمال).
وهكذا، وعلى الرغم
من أهمية هذا النوع من المسؤولية في تغطية الحالات التي ترتكب فيها جرائم من قبل المرؤوسين
دون أن يكون بالإمكان إثبات المسؤولية الجنائية
للقادة والرؤساء الأعلى على أساس إصدار الأوامر([8])،
أي على أساس المساهمة المشار إليها في الفقرة (3/ب) من (المادة 25) من النظام الأساسي،
فإن تطبيق هذا النوع من المسؤولية يشكل خطورة فعلية على تحقيق
العدالة، إذا لم يتم وفق معايير تأخذ بالحسبان الحالات التي لا يكون بإمكان القائد
أو الرئيس الأعلى فيها القيام بإجراء يمنع
فيه ارتكاب الجرائم، خاصة في حالات النزاع المسلح.
وهذه المسؤولية
تشمل سلسلة القائمين بإصدار الأوامر والقرارات العسكرية، أو المتعلقة بتنفيذ أفعال
إجرامية تتدرج تحت نصوص الاتفاقية، تم تنفيذها بناء على تخطيط وسياسة من الدولة أو
ذوي السلطة. وبالتالي فإن المسؤولية الجنائية الفردية لمن نفذوا تلك الجرائم من الممكن
أن تصاحب بمسؤولية منفصلة ومستقلة لقادة الدولة وقواها، إذا كانت التصرفات الصادرة
عن الأفراد من الممكن أن تعزى للدولة. ولهذا فإن تلك المسؤولية تشمل جميع من هم في
التسلسل القيادي، بدءاً بأعلى مستويات مصدري القرارات السياسية، ومروراً بالضباط والجنود،
أو حتى أفراد الميليشيات وصولاً إلى المدنيين الذين ارتكبوا تلك الجرائم. وإن الغرض
الأساسي من إعمال مبدأ مسؤولية الرؤساء والقادة هو ضمان توخي ذوي السلطة في جميع المستويات
القيادية([9])
العناية الكاملة لمنع انتهاكات القانون الدوليالإنساني.
ومسؤولية القادة
تتضمن مفهومين للمسؤولية الجنائية، أولهما المسؤولية المباشرة حيث يعد القائد مسؤولاً
لإصداره الأوامربارتكابأفعال غير قانونية. وثانيهما المسؤولية المفترضة، حيث يعتبر
القائد مسؤولاً عن أفعال تابعيه غير القانونية برغم أنه لم يأمر بارتكابها.
مسؤولية القادة والرؤساء المباشرة
إن الرئيس أو
القائد الذي أصدر أمراً بارتكاب عمل غير قانوني مجرم، وتم تنفيذ هذا الأمر بواسطة تابعيه،
يكون مسؤولاً عن تلك الأفعال كما لو كان قد ارتكبها هو بنفسه. كما أن الإغراء أو الحث
على ارتكاب الجريمة أو تقديم العون أو التحريض أو المساعدة بأي شكل لغرض تيسير ارتكاب
الجريمة، أو غير ذلك من أشكال المساهمة الجنائية
التي فصلتها (المادة 25) من نظام روما، تجعل القائد مسؤولاً مسؤولية جنائية فردية
(مباشرة) عن تلك الجريمة.
في قضية تاديتش
قررت غرفة المحاكمة الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة أنه
"بالرغم من أن المتهم لم يضطلع بطريق مباشر في الأفعال المدعى بها، إلا أنه يظل
مسؤولاً إذا استطاع ممثل الإدعاء أن يثبت: أنه شارك عن وعي في التخطيط أو التحريض أو
الأمر أو ارتكاب، أو بشكل آخر في المساعدة أو المساندة في ارتكاب الجريمة،أو أن هذه
المشاركة قد أدت مباشرة وبصفة أساسية إلى ارتكاب الجريمة".
المسؤولية المفترضة للقادة والرؤساء
طبقاً لنص (المادة
28) من نظام روما، فإن المسؤولية الجنائية للقائد أو الرئيس (المسؤولية الرئاسية) عن
أعمال مرؤوسيه تنعقد عندما يتوافر العلم أو تتوافر الأسباب المؤدية لعلمه بأن المرؤوس على وشك ارتكاب أفعال إجرامية،
أو أنه قد ارتكب بالفعل مثل تلك الأفعال، إلا أن الرئيس فشل في اتخاذ الإجراءات الضرورية
والمعقولة لمنع ارتكاب مثل هذه الأفعال أو لمعاقبة الجاني.
في قضية معسكر
(سليبيتشي) وجدت غرفة المحاكمة في محكمة يوغسلافيا أن "مبدأ مسؤولية الرؤساء لا
يشمل فقط القادة العسكريين، ولكن أيضاً المدنيين الذين يشغلون مناصب رئاسية ذات طبيعة
واقعية أو ذات طبيعة قانونية"([10]).
والجدير بالذكر
أن مبدأ تسلسل المسؤولية مرتبط بمبدأ تسلسل السلطة حيث يجب احترام التدرج الرئاسي الهرمي،
وهذا يقابله تدرج في القرارات التي تصدر عن الرؤساء. وقوة تنفيذها والزاميتها تتفاوت
بحسب الآمرين بها تبعاً لسلطتهم ومراكزهم الوظيفية.
وعلى المرؤوسين
الالتزام بطاعة الأوامر الرئاسية ذات القيمة القانونية التي تصدر عن الرئيس الأعلى([11]).
ويجب أن تكون الأوامر مقتصرة على ما يتعلق بالعمل، وأن تكون في حدود القانون والتعليمات،
وأن لا تهدد المصلحة العامة أو تشكل جريمة يعاقب عليها القانون. كذلك لا يمكن أن تكون
السلطة الرئاسية مطلقة، بل يجب أن يخضع الرئيس والمرؤوس لسلطان القانون، مما قد يثير
التساؤل حول الصراع بين مبدأ سيادة القانون وواجب المرؤوس في إطاعة رؤسائه، ومبدأ المشروعية
في الظروف العادية والاستثنائية.
وأخيراً تكفل
المبادئ المتعلقة بـ "المنصب الرسمي ومسؤولية القيادة، والأمر الصادر عن رئيس"
مساءلة جميع الأشخاص على كافة مستويات التسلسل القيادي([12])
لتشمل رؤوساء الدول والمسؤولين الحكوميين وكل من لهم سلطة على مرؤوسين ينتمون إلى جهاز
الدولة.
المستشار الدكتور ناجي سابق
خبير
في القانون الدولي الجنائي
([3])إن مسؤولية الضابط القائد هي مسؤولية مباشرة لا يمكن التنصل
منها تحت ظل أي ذريعة، لأن القاعدة العامة هي أن أعضاء القوات المسلحة ملزمون بطاعة
الأوامر العسكرية التي يصدرها قادتهم الضباط في زمن السلم والحرب.
راجع علي عواد،
العنف المفرط، دار المؤلف، بيروت، 2001، ص 83.
([7])هناك مسؤولية تأديبية لا ترتبط بالمسؤولية الجنائية لاختلاف
نطاقهما وهدفهما، تقوم عند الإخلال بواجب إطاعة الأوامر العسكرية، أي إخلالاً بواجبات
الوظيفة، وقد نصت عليها جميع نصوص قانون القضاء العسكري في الدول ومنها: التمرد، ورفض
الطاعة، والعصيان، والتحقير وأعمال الشدة الواقعة على الرؤساء، وإساءة استعمال السلطة.
راجع قانون القضاء العسكري اللبناني المواد (148- 150- 152- 153- 158).